رحيل فارس المروءة والرجولة – بقلم ناصر بن محمد بن فهد العتيق*
نقلا عن جريدة الجزيرة
الأحد 12 رجب 1430 العدد 13429
لعمرك ما الرزية فقد دار ** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حر ** يموت بموته خلق كثير
رحل عن هذه الدنيا منذ أيام فارس من فرسان المروءة والرجولة والجود والكرم، الخال الحبيب محمد بن عثمان الحليله، حيث فاضت نفسه ليلة الجمعة السادس من شهر جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وثلاثين هجرية، أسأل الله أن يفرغ عليه سحائب رحمته، ويكرم مثواه ونزله. ففقد محبوه رجلاً جواداً من طراز نادر، بعدما أدنفته العلل، وأضنته الأمراض، وحطمت جسده الأوجاع التي تكالبت عليه لسنين طويلة، وكان مع ذلك صابراً شاكراً حامداً الله على كل حال، لم أسمعه يوماً يشتكي المرض أو الهم أو التعب.
ترك في نفوس محبيه حسرات من فوقها حسرات، وآلام في ساقتها آلام. شيعته الجموع إلى مثواه ومضجعه، وقد غلب على الكل الحزن والبكاء على فراقه، ففراق الأحبة لا شك مفجع، ولكنها هي إرادة الله وسنته التي لا تتغير.
قال الشاعر (بتصرف)
قد ذهب الناس ومات الكمال ** وصاح صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو حمد في نعشه ** قوموا انظروا كيف تسير الجبال
طواه الردى بعدما ملأ قلوب أحبته حزناً وألماً، وبعدما ملأ الأكف التي امتدت إليه بذلاً وكرماً.لم تكن الحياة له منحدراً سهلاً، ولم تكن طريقاً ممهداً معبداً، بل بادأته الحياة بوعورة طرقها وخشونة ملمسها منذ نعومة أظفاره، فبدأ الكفاح في سن صغيرة جداً حيث خاض في بحرها المتلاطم وهو بعد في سن الثانية عشرة فراضه الزمان وعجمته الخطوب ولما يزل في سني الطفولة، فارتحل للرياض من قريته الوادعة روضة سدير للعمل والكد وطلب الرزق وهو في تلك السن، طفلاً غريراً، لين العود، لم يقو عظمه بعد على صد غوائل الحياة ومفاجآتها، ولم يشتد بعد ليتحمل المكاره، ولم تقو أقدامه بعد على تحمل وعورة الطريق.. ذلك الطريق المملوء حفراً وأشواكاً وذئاباً، ولكن الله خلقه رجلاً صلداً منذ طفولته الباكرة، فانطلق في رحاب هذه الحياة يخوض في لججها ويصادم أمواجها بقوة وكفاءة نادرة، فشق طريقه بفضل ما وهبه الله من صفات نادرة، فاضطلع بالشدائد، وتجلد على مض النوازل.
وعندما انتقل للرياض وبدأ العمل والكد والكدح، أخذ يرسل المال إلى والديه وأخيه الصغير في قريته، مستشعراً المسؤولية حاملاً هم والديه وحاجتهم، وهو في تلك السن.. كان رجلاً في جسم طفل، فقد وطد الله أساسه على العقل والرزانة.
كان طلق اليدين، رحب الصدر، ندي الكفين، فعندما أغناه الله من واسع فضله، لم يضن بماله على رفاقه ومعارفه، وعلى أصحاب الحاجات والفاقة، فما عاد منه أحد إلا بنجح حاجته ودركها، فلم يك مكفوف الخير مانعً للبر والإحسان.
كان طوداً شامخاً بأخلاقه يسمو للمكارم، جزل المروءة، عرف عنه عزة النفس والعفة، وعلو الهمة، والبعد عن الدناءة، فصدف عنها وارتقى خير المراكب، الخلق الحسن.
كانت هوايته المحببة إليه الصحراء والصيد، فكان لا يبرح بيته وعمله إلا للبر، حيث النزهة والصيد والمتع البريئة، برفقة رجال شهد الله على استقامتهم، وكان أقربهم إلى قلبه الشيخ محمد بن إبراهيم العتيق المعروف بأبي فهد أطال الله في عمره وأسبغ عليه الصحة والعافية.
ولقد كان أبو حمد من فرسان الصحراء المعدودين، لا يجري في مضماره أحد في عمق معرفته للصحراء، فلا كاد بقعة من بقاع صحارى نجد تجهله أو يجهلها، ولو نطقت تلك البقاع لنطقت باسمه، وبأسماء تلك الثلة المباركة وتلك الرفقة الصالحة.
لم يك ضيفاً طارئاً على الصحراء، بل كان من أسودها وليوثها العارف أسرارها الخابر طرقها ومجاهلها.
عرف سكانها وجبالها وسهولها ورياضها وهضابها حق المعرفة، فكان من أدلتها المعدودين.مهد لبنيه الحياة ووطأها لهم توطئة اتصفت بالحكمة وسداد الرأي، فغدوا رجالاً يشار إليهم بالبنان، ففرش لهم طرق الحياة ومسالكها، لا بالترف والرخاوة ونعومة العيش وخفضه، بل بحسن التربية، والاستقامة، والاعتماد على النفس، والتعود على خشونة العيش. فلم ينشؤوا في حياة الدعة والتنعم الميوعة، ولم تغلبهم شقوة الضائعين وحيرة التائهين في مسارب الحياة وسراديبها المظلمة حيث كان لهم منارة يهتدون بها إذا أضلتهم سحب الظلام أو جرفتهم أمواج العابثين.
لقد فارقنا جسدك أبا حمد لكن روحك بيننا، وذكرياتك ستظل في قلوبنا ما بقيت أرواحنا بين جوانحنا. ولن أقول لك وداعاً، بل إلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض. فلا ينفع الحزن ولا اجترار الذكريات.
ولا يفوتني أن ألقي في سمع زوجه المرأة الصالحة الصابرة وبنيه وبناته كلمات، فارعوني سمعكم، وقد وجمتم لفقده، وداهمكم الحزن عليه، وغشيكم الهم والغم والكرب لفراقه، لا تذهب قلوبكم، ولا يقضي عليكم الغم، ولا تتساقط أنفسكم حسرات، فلا تثريب على أبيكم بعد اليوم، فكم فك من عانٍ، وكم مد أياديه البيضاء لمحتاج وفقير، وكم أعطى قبل أن يُسأل.. فصبر جميل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
* شركة أرامكو السعودية – الرياض