منوعات

ورحل صاحب القلب الكبير بقلم : أفنان بنت سعود بن عبدالعزيز الأحمد

ورحل صاحب القلب الكبير

افنان سعود الأحمد


ورحل صاحب القلب الكبير.. جدي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن احمد الاحمد، بعد ان ادى رسالته على اكمل وجه. بعد ان عاش عمراً مديداً زاد على المائة عام. وخلف لابنائه واحفاده واسرة الاحمد السمعة الطيبة… كانت لنا مع جدي سنين مرت كأنها لحظات قصيرة لدرجة انني اجد صعوبة في تذكرها… حتى لم يعد يبقى منها الا بعض المواقف والذكريات… لم نكن نجلس معه الا اثناء الزيارة، لكنها كانت بالنسبة لنا فرصة نستأنس بها، حيث كان يمطرنا بعبارات التشجيع والمديح على مانصنعه من أكل او نحققه من نجاح. كان جدي او ابوي عبدالعزيز (كما كنا نسميه) صاحب شخصية قوية… يحترمه ويهابه الصغير قبل الكبير. لم نكن نشاهده يضرب احداً او يرفع صوته على احد لكننا ولدنا وتربينا على ان نصمت عنده ونستمع لما يقول او نجيب على مايسأل.. كانت الكلمة له او موجهة اليه في المجلس الذي هو فيه.. الا من يتعدى حدود الادب.

كان كثيراً مايذكر افعال الملك عبدالعزيز ومواقفه من اعدائه خصوصاً اذا ظفر بهم، وكيف كان يعفو عنهم… و يتحدث عن شجاعة الملك عبدالعزيز وتقاه، وانه كان بمثابة القدوة للصغير والكبير. رحم الله جدي عبدالعزيز.

كان فينا كحال الكثير من الاسر الكبيرة، بمثابة كبير الاسرة ومرجعها، وبالفعل كان ذلك الرجل العظيم الذي يعتبره الجميع والدهم وقدوتهم ويحكي عنه كبار الاسرة من رجال ونساء بأنه وخلال الخمسين سنة الماضية كان العون والمقصد لكل محتاج من العائلة. لكنه القدر المحتوم فمهما طال العمر بنا او قصر فان الموت هو المصير المحتوم. قال الشاعر:

كل ابن انثى وان طالت سلامته ** يوماً على آلة حدباء محمول

هذا هو الحال بعد ان داهم جسمه الطاهر ذلك المرض المميت البشع وأخد ينتشر داخله إلى ان تمكن منه والقاه على فراشه وما هي الا اسبوعين على السرير الابيض حتى اسلم جدي عبدالعزيز روحه الطاهرة في احسن خاتمة يتمناها المؤمن.. اسلمها بين يدي غفور رحيم كريم باذن الله تعالى.. كان ذلك في تمام الساعة الواحدة والثلث من يوم الاحد الموافق 23ذي القعدة سنة 1423ه ، في المبنى الغربي لمستشفى القوات المسلحة بالرياض… اسلم روحه وهو رافعاً سبابة يده اليمنى يذكر الله وبقي بعد وفاته على ذلك الحال.. وكان قبلها يردد بلهجته وكأنه يحادث ربه بكل مصداقية وبلا حواجز ايماناً واحتساباً، حيث كان يردد يارب ارحمني يارب ارحمني.. ويطيل في مد كلمه يارب.. حتى كأنه يحادث الله وهو يراه. ونحن نلتف حوله ولكن بلا حول ولاقوة.. وما بيدنا الا ترديد “انا لله وانا اليه راجعون”.. ايماناً بقضاء الله وقدره واحتساباً للاجر لنا وله.

بعد ماصام رمضان كاملاً رغم معاناة من آلام المرض وانعدام الشهية وضعف الجسم لدرجة كانت تودي به في احيان كثيره الى غيبوبة وحالة من فقدان الوعي.. مع انه كان يحتسب الأجر ويصبر على كل ذلك شامخاً حتى بلغ به الحال انه كان يصوم وهو يعيش على المغذي.. لكنه (والحمدلله) حضر معنا عيد الفطر المبارك، ومن كان يدري ان ذاك العيد هو آخر عيد يجمعنا به.. لكنها مشيئة الله اللهم لا اعتراض….

كان يحب الاستماع لاحاديث وسواليف ابنه سعود كثيراً (والدي) يمازحه ويتندر معه كثيراً. وكان والدي اذا حضر يتعمد مشاغلته بالقصص والقصائد المعبرة التي تجد عنده القبول.. حتى يجعله يتذكر منها الكثير ويروي منها مايروى من قصص وقصائد.. وكنا نلاحظه… ما هي إلا دقائق من حضور والدي ومحاكاته له حتى يبدأ جدي يتهيض ويروي القصة المناسبة تلو المناسبة… ويبدأ ينتعش وترتفع معنوياته وكأنه يخرج من وحدته.. واحياناً يتحفنا بشيء من قصصه وقصائده اثناء حروب توحيد الجزيرة العربية… خصوصاً مغزى باقم واليمن والدبدبة… و كان ابي حريصاً جداً على عدم المقاطعة واختيار الاسئلة التي يعلم انها في محلها… فتبدأ على وجه جدي مؤشرات السعادة… وما هي الا دقائق حتى يبدأ يضحك ويمازح ليعبر عن سعادته بالسوالف الرجولية.. واحياناً يلتفت علي والدي ونحن جلوس ليقول بلهجته (وينك ياسعود وانا ابوك.. تراني والله منيب انبسط ويستاسع صدري الا الين جيت وسولفت معي)… فيزيد والدي من مداعبته ويأخذ يده يقبلها ويقول مداعباً ولكن (ياابوي) الذبائح عندكم هالايام ماعاد لها كبيدة ولا كليوة؟ فيضحك الشيخ الكبير ويرد مداعباً ابد يا ولدي ذبيحتنا مالها لا كليوة ولا كبيدة… شارينها كذا.. وكان من طبعه ان يعاتب كل من غاب عنه بكلماته المعهودة للاولاد (وينك يا أبوي؟) وللبنات (وينك يا أمي؟).

كانت له قصة مع الصبر والمعاناة قبل معاناته الاخيرة مع ا لمرض.. فقد بقي يرحمه الله في آخر حياته خمسة اعوام فاقداً للرؤيا لكن والدي (سعود) وعمي (منصور) كانوا يلحون عليه للكشف عند اكبر الاطباء وكان احدهم قد اعطى بصيص أمل.. وبالفعل اجريت لجدي الحبيب عملية زرع قرنية وعدسة.. وعاد ليرى النور من جديد.. فقد استعاد بصره وبدأ يشاهدنا ويحدثنا باسمائنا ليعرفنا كلنا ابناؤه واحفاده واحبته.. من حوله.

مع انه كان يفرح بقربه من بيت الله الحرام والكعبة المشرفة اذ ان جدي يعشق كشتات البر عشقاً ابدياً حتى في مرضه رحمه الله كان يتخيل باننا تأخرنا في تلك الرحلة ثم بعد ثمان يغيب عن الوعي بعد تلك الامنية البائسة……..
كما للشيخ الراحل ازمات ومصائب ربما كانت في اقتراب المرض منه او المنية بالاصح واقرب تلك المصائب قبل سنتين بالضبط من وفاته انتزع ملك الموت ابنته الكبرى (نورة) من بين احضان اولادها وبناتها في ليلة كانت هي اسعد الليالي التي عاشتها…. الحمدلله على كل حال…..
كما توفيت ساره ذات الجمال الفتان على (حد علمي) في عمر الزهور شهيدة باذن الله. كما انتقل الى رحمة الله الابن الشاب خالد المحبوب دوماً والوسيم خلقاً وخلقاً في مقتبل عمره…. حادث مرور مروع لحظات ادت الى وفاته رحمه الله.
كما غادر الحياة عبدالرحمن وهو مسافر الى احدى المناطق لم يعلم انه سيتوجه الى ربه لم تعرف اشلاؤه رحمه الله. كل تلك المصائب تقبلها الشيخ الراحل بايمان صادق رحمه الله….
كان يرحمه الله يبدي نصائحه لابنائه باختصار لكي لايجعلهم ينفرون او يملون، وكان لايطيق ان يتهمه احدهم بالتعب او الحاجة الى الراحة، لدرجة انه كان يقوم الليل ويؤدي صلاته مع الجماعة طوال حياته ويصوم رمضاناته مهما كانت حالته الصحية صعبة.. وقد عاش على ذلك الحال الى ان توفي عن عمر يناهز المائة واربعة اعوام.. حيث كان يذكر لنا انه ولد سنة فتح الرياض.

كان مع قوة شخصيته وجديته.. الا انه كان دائم المزاح والابتسام.. ضحوكاً ودوداً… يحكي دوماً قصصاً مضحكة لايمل منها.. وقصصاً مؤثرة يتساقط الدمع الغالي لسماعها.. وما احلاها عندما تتعطر ببيتين من الشعر على لسانه.. ومع اننا كنا نكون الى جانبه.. لكننا في معظم الاحيان لانعي او نفهم ثمن تلك الساعات الثمينة التي يهم فيها بالتحدث… فكم تنذمنا على عدم اغتنام تلك الفرص بجانبه.. واليوم وبعد فوات الأوان بدأنا نحس بان تلك اللحظات ثمينة لاتشترى… وكان من طبعه كثرة الدعاء لنا.. فما تقدم له كوباً من الشاي او كأساً من الماء الا ويبدأ بالدعوات الحارة التي كانت تنبع من قلب ينبض بالمحبة والصدق.. وكنا لانترك مجلسه وهو في الاستراحة الا عندما يأمر باقامة الصلاة.. يقولها بثقة (ياولدي اقم الصلاة) فيصلي بجانبه اولاده واحفاده تلك اللحظات تسوى الدنيا وما فيها ولكن مشيئة الله فوق كل شيء نسأل الله العلي القدير ان يتغمد الفقيد بالرحمة والمغفرة ويجمعنا به في جنانه يارب العالمين اللهم لاتحرمنا اجره ولاتفتنا بعده ياذا الجلال والاكرام….

اللهم ارحمه واستره تحت الارض ويوم العرض، اللهم نور ووسع عليه قبره، اللهم انقله من ضيق اللحود ومراتع الدود الى جناتك جنات الخلود. اللهم يمن كتابه ويسر حسابه وثقل بالميزان حسناته وثبت على الصراط اقدامه واجعل الفردوس قصره ومكانه.
اللهم اظله في عرشك يوم لاظل الا ظلك اللهم اسقه من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيه مريئة لايظمأ بعدها ابداً. اللهم لاتصرف وجهك الكريم عنه، ولاتحرمه لذة النظر لوجهك الكريم. اللهم اجعله راحلاً راضياً عني وعن اخوتي ووالدي يارحيم ياودود اللهم اغفر لي كلما قصرت في حقك وكلما قصرت في حقه اللهم اغفر لي ذنوبي كلها، اللهم لاتجعل دموعنا عليه جمر في قبره لقد بكينا وتقطعت القلوب وجفت الدموع وما من حليه سوى مناجاتك والدعاء له بالرحمة والمغفرة اللهم لاتخذلني في هذه اللحظة التي اناجيك فيها ولا تردني خاسرة …….


جريدة الرياض – الثلاثاء 15 جمادى الأولى 1424العدد 12807 السنة 39

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى