شخصيات مختارة

وداعا أبا حمد ( علي بن حمد العتيق )

 بقلم : محمد بن إبراهيم الحمد

نقلاً عن كتاب خواطر

الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عصي طيّع ُ

يتجاذبان دموع عين مسهـَّـدٍ ** هذا يجيء بها وهذا يرجع ُ

في يوم الجمعة الموافق 15/5/1423هـ ودعت محافظة الزلفي رجلا يحار الواصف في تبيان حاله ، وما أودع الله فيه عجيب الحكمة ولطيف السيرة ونقاء السريرة فمن هذا الرجل ..؟؟؟

 انه أبو حمد الشيخ الفاضل علي بن حمد العتيق – رحمة الله واسكنه فسيح جناته –

لقد فارق الدنيا وهو في السادسة والستين من عمره حيث ولد عام 1357هـ وكان متمتعا بجميع قواه البدنية والعقلية .

لقد مات ميتة ربما يتمناها حيث لم يكن يعاني من أمراض ولم يقعده الم بل انه لم يذهب إلى المستشفى منذ ما يقرب خمس عشرة سنة قبل وفاته .

لقد ودع الدنيا بصمت وهدوء بعد أن ملأ عقول من يرتادون مجلسه أو يحرصون على اللقاء به حكمة وروية وحنكة وبعد نظر .

لقد كان على طراز نادر من حسن التبصر والتحليل والنظر في مجاري الأمور .

ولقد كان يملك قدرة عجيبة على حسن المحاضرة والحديث وجميل الإلقاء وقوة التأثير في السامعين حيت انه إذا تحدث أخذ بمجامع القلوب .

وكان إذا وعظ موعظة في الصدقة أو الصلاة أو الورع أو الغيرة ذهبت تواً إلى القلوب .

وكان شديد الغيرة على محارم الله شديد الغيرة لدين الله – عز وجل – 

وكان سريع الدمعة قوي الخشية من الله كثير الذكر والتعظيم لله عز وجل 

وإذا جلست بجانبه وهو يقرأ القران تعجبت لحسن تدبره ووقوفه مع الآيات وشدة تأثره بها .

وكان جليسه لا يمل حديثه حتى أنه ربما طال الحديث وامتد إلى ساعات ولسان حال جلسائه يقول :

هل من مزيد ..؟؟

وكثيراً ما تكون لقاءاته وجلساته مع محبيه من بعد صلاة الفجر ثم تمتد إلى أن يتعالى النهار دون أن يشعر الحاضرون بذلك .

وكان عف اللسان طيب القلب بعيدا كل البعد عن الحسد والحقد والأثرة وسوء الظن. 

وكان لا يضيق ذرعا بمن يخالفه ولا يسفهه ولا يحتقره فان اقتنع محاوره بما يقوله ويلقيه ويبديه من آراء وإلا تركه وشأنه دون أن يتعصب لرأيه أو يسيء إلى من يحادثه .

وكان ذا قدرة على مجاراة كافة الطبقات فتراه يجالس الكبار العوام ويجالس الشباب ويجالس أهل العلم فيأخذ بالألباب إذا تحدث ويعطي كل طبقة ما يناسبها ويلاءم عقولها .

وكان ذا قدرة عجيبة على السبر والتحليل والنظر في العواقب .

وله في هذا الصدد نظرات ثاقبة وآراء سديدة وتحليلات بارعة وأقوال سائرة في الناس يتروَّاها ويتحدث بها من جالسه وخالطه .

وكان قلبه يفيض بالرحمة للمساكين والفقراء والمحتاجين وكم كانت الدمعة تغالبه والبكاء يعالجه إذا تحدث في هذا الشأن 

وكان يحسن الربط بين الماضي والحاضر ويجيد النظر في المستقبل 

وكان يحرص في أحاديثه على ربط الشباب بالسلف الصالح الأوائل وبالسلف الصالح القريب من عصرنا من الآباء الصلحاء والأمهات الصالحات ممن كانوا ذوي تقى وورع وكرم 

ويقول : أن هذا الجيل ربما استصعب الاقتداء بالأوائل ورأى ذلك ضربا من الخيال , أما إذا حدث عن القريبين منه كان ذلك مدعاة لقبوله وسرعة استجابته .

وكان يغتنم الفرص ويراقب أحوال الناس وقلما يمر حدث من الأحداث إلا ويتناوله بالتحليل والنظر والتأمل والتعليق سواء أكان الحدث كبيرا على مستوى الأمة أم صغيرا لا يلفت النظر ولا يستدعي الوقوف عنده.

واذكر قبل سنتين من وفاته إني كنت بجانبه بعد صلاة الفجر وكنا في مسجد بجانب منزل فيه نخيل وداخله دجاج وغنم .

وسمع صوت دجاجه فالتفت إلي وكبر الله واخذ بيدي ويعيد ويفرّع على هذا الصوت ويبين أن الدجاجة تؤدي رسالة منوطة بها فهي تحرص على فراخها وتحوطهن برعايتها ثم انطلق من خلال ذلك إلى دقة خلق الله وإلى أن هذا الكون مترابط وانه يسير بنظام عجيب محكم وانه لا يخل بنظام الكون إلا ابن ادم إذا عصى الله عز وجل وهكذا استرسل في موعظته المنسوجة إلى أن ارتفعت الشمس .

وقبل وفاته بأسابيع حدثني انه شاهد في إحدى المزارع ديكا روميا وقال : لقد رأيت فيها كثر من سبعين آيه .

وكان رحمه الله على اطلاع في التاريخ القديم والحديث .

وكان صاحب تنظير في الغذاء وحفظ الصحة وتدبير المعيشة .

وكان لا يبخل في المشورة أو النصيحة لمن أرادها منه بل كان يبتدر ذلك وإن لم يسأل .

وكان له رحمه الله مصطلحات ورموز وإشارات يفهمها من يطيل مجالسته ويعرف مرامي كلامه . 

وكان يبدع ويغرب في الحديث عن المكارم والمروءات والشجاعة والعفة . وله أخبار في ذلك يطول وصفها .

وله نظرات في المرأة والتعامل معها وما يحاك حولها ومدى الفتنة الحاصلة بسببها إذا هي انحرفت ومدى ما تجنيه الأمة من صلاح المرأة وعفتها وحيائها . وأحفظ له في هذا الشأن قصصا وأخبارا .

وكان رحمه الله يحسن التعامل مع الأحداث والمتغيرات .

وكان يعطي كل ذي حق حقه ولا يحتقر أي احد كائنا من كان فلا غرو إذاً أن يكون جلساؤه من الكبار الذين يكبرون في السن كثيرا أو من هم في سنه أو من هم اصغر منه بكثير .

وكان إذا جلس مجلسا وهم لا يدركون ما يقول اكتفى بالصمت والاستماع .

وكان ذا ورع وزهد وبعد عن المشتبهات .

    ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ علياً رحمه الله قد درس في كلية الشريعة وتتلمذ على يد عدد من المشايخ في الرياض كالشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي  والشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي وسماحة الأمام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهم الله .

ودرس على سماحة الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله .

ودرس على يد كثير من العلماء لما كان في الرياض .

   وكان محبا لهؤلاء المشائخ ومحبا لغيرهم من أهل العلم كالشيخ العلامة عبد الرحمن الدوسري رحمه الله حيث كان كثير الاستماع لأشرطته .

وقد عرض عليه القضاء فأبى ولم يقبل مع كثرة الإلحاح عليه في ذلك .

   وكان رحمه الله لطيفا في أمره ونهيه وأذكر أنه لقي شابا يشرب الدخان في احد الأسواق فسلم عليه وقل له من الأخ ..؟؟ فقال : أنا فلان بن فلان آل فلان فقال الشيخ : والله لو تعلم ماذا كان عليه أجدادك من النخوة والشيمة والكرم والديانة لما كان هذا صنيعك .

   وقد أراد الشيخ بهذا أن يحرك نوازع الخير في ذلك الشاب فما كان من الشاب إلا أن ألقى السيجارة وقال جزاك الله خير الجزاء وسأقلع عن التدخين أن شاء الله .

وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله تعالى (يابني إسرائيل) و ( يا أهل الكتاب ) وغيرها  من الآيات التي تستدعي الإيمان في الإنسان .

وكان يقول لي: الداعية العاقل في هذه الأزمان ينبغي ألا يقتصر على طريقة واحده في الدعوة بل ينبغي أن يكون له مليون طريقه – هذا نص عبارته – .

    قلت له ولم ذلك  قال لان الناس تختلف مشاربهم وأذواقهم فلا يناسبهم طريقة واحده.

ويقول لي : لقد اكتشفت أن بعض الناس لا تستطيع التأثير عليهم إلا من باب استثارة نخوتهم وبعضهم من باب الدعابة وهكذا .. 

   وكان – حريصا – على إرجاع الشيء إلى أصوله ولم يكن يكتفي في التحليلات أو العلاجات السطحية المباشرة .

    يذكر الأخ الأستاذ سليمان بن موسى العمير – وهو من خاصة ندمائه – انه دار الحديث في يوم من الأيام عن حوادث السيارات وعن أسبابها وسبل علاجها فقال الشيخ علي : علاجها يكمن في أمور منها المحافظة على الصلاة وترشيد المشاوير واختصار الطريق إذا أراد الإنسان أن يقضي حوائجه وترك الدخان .

ثم قال : وأم عبية فقال له : ومن وأم عبية وما شانها في هذا ..؟؟

قال : وأم عبية المرأة وشانها أن تلزم بيتها لأنها  تشغل المارة وربما تسببت في الحوادث .

    ولقد صدق رحمه الله فلقد نشرت الصحف قبل فترة أنهم اكتشفوا في اليابان أن تبرج النساء وخروجهن للاماكن العامة من اكبر أسباب حوادث السيارات خصوصا في فصل الصيف حيث يشغل قائد السيارة بالنظر إلى النساء ثم يغفل عن طريقه فتقع الحوادث .

    وكان يقول لو كان الأمر بيدي لمنعت أكثر من 70% من المبيعات في الأسواق كالمعلبات والمشروبات الغازية ونحوها لما فيها من الضرر على الصحة .

وكان رحمه الله من اشد الناس تحذيرا من المكيفات وشدة تبريدها وضررها على الصحة بل لقد كان ذلك مستفيضا عن جميع من يعرفه وقل أن يجلس في مجلس إلا ويتكلم في هذا الشأن ويذكر أخبارا وأضرارا فيه .

   وكان يعزو أسباب كثير من الأمراض كالجلطات والشلل ونحو ذلك إلى المكيفات .

ويقول لي ذات مره انه دخل عند احد الأطباء فبدأ يحدث الطبيب عن المكيف وأضراره وبدأ يفرّع ويسترسل في كلامه فدهش الطبيب واستمع إليه مدة تزيد على الساعة حتى أن الطبيب نسي مراجعيه من شدة إعجابه بأبي حمد .

    واذكر أنني قابلته في احد أيام القيظ  الحارة جدا وهو يريد الدخول إلى المسجد وعليه عباءة – بشت – من وبر فقلت له : ما هذا أبا حمد وكيف تلبس هذا البشت الغليظ في عز هذه الهاجرة ..؟؟ فقال : هذا البشت يساوي عندي سيارتك . أما علمت أضرار المكيفات ..؟؟ ثم قال : هذا البشت ينطبق عليه قوله تعالى (وسرابيل تقيكم بأسكم ) وأشار إلى المكيف . 

وكان دائما يقول : الحر لا يضر بل انه ينفع ويقول مؤيدا كلامه : هل رأيت خبازا يذهب إلى المستشفى يشتكي الحر مع انه يقابل الفرن ساعات طويلة ..؟!

ولم يكن رحمه الله يحذر من التبريد  في الجملة وإنما يحذر من المبالغة فيه ويحبذ كثيرا تركه لأنه –على قاعدته – يجب أن يسير كل شيء على طبيعته ويقول : إن الجسم بحاجة إلى الحر ولا بد أن يعرق حتى يتوازن ويعتدل .

  ولما قلت له : إن لابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر كلاما يؤيد كلامك هذا فرح وانبلجت أساريره .

وكان ذا طرفة نادرة ودعابة محببة ونكتة حاضرة لا يتكلف ذلك وإنما يأتي به عفو الخاطر .  

   وكان يتحسر إذا مات الصالحون والكرام من الناس وأذكر أنه لما مات أحد كبار السن المعمرين العقلاء العباد الزهاد وهو الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الرومي رحمه الله قابلت الشيخ عليا في المقبرة أثناء تشييع الجنازة فقال لي : لقد ذهب اليوم نصف العقل .

    وكان يحث على ملاطفة النساء والقيام بشأنهن مع المحافظة على حشمتهن وحيائهن .

وكان يقول : بعض الناس جلف جافي الطبع لا يعرف امرأته إلا في الفراش والذي ينبغي أن يجعل يومه عامراً بالود مع أهله بالابتسامة والبشاشة والمزاح وما إلى ذلك 

ويذكر لي الشيخ عبد الله الموسى – وهو من أحب جيرانه إليه – أن الشيخ عليا رحمه الله يقول : الكريم قد يبخل أحيانا ويغتفر ذلك له والشجاع قد يجبن أحيانا ويغتفر ذلك له . أما الشرف والعرض فلا تبعيض فيهما أبدا.

وكثيرا ما كنت أقول له : ليتك يا أبا حمد تكتب وتدون نفيس خواطرك وما يجول في ذهنك فيقول : إنني أتمنى أن اكتب سلسلة عنوانها (أيام الله ) فعسى الله ان ييسرها فمات ولم يكتب شيئا .

وكان يقول أتمنى أن أعيش يوما أحقق فيه الإسلام فلا اقصر في واجب ولا ارتكب منهيا .

   ودار الحديث في يوم من الأيام عن الدعوة إلى الله وتعليم الإسلام لغير المسلمين فقال يكفي في تعليمه أن تصحب المدعو في يوم من الأيام من أول الفجر إلى أن ينام فإذا أذن الفجر تعلمه كيف يجيب الأذان وتتوضأ أمامه وتعلمه كيف يصلي ثم تجعله يصلي معك وهكذا تعلمه عمل اليوم والليلة تطبيقا . 

   وكان لا يحتقر الفائدة ولو على عجل يحدثني احد الإخوان وهو الشيخ بدر الطواله قائلا :” أن الشيخ عليا رحمه الله لقيه وهو على السيارة والشيخ على سيارته في شارع فأوقفني وقال : اعلم أنك على عجل وأنا كذلك ولكني أسالك : هل يليق بالرجل أن يسب مزرعته فقلت له لا فقال : الدنيا مزرعتك فازرع فيها ما شئت ودع عنك سبها ثم ودعني .”

    أما نظراته في السياسة فتحتاج إلى كتابة أطول من هذه وأخباره في هذا المجال يصعب حصرها .

   واذكر مثالا واحدا في هذا المجال وهو انه لما أقيم مؤتمر السكان في القاهرة قبل سنوات وكان مؤتمرا خبيثا يدعوا إلى التحلل والانطلاق والإباحية .

لما كان ذلك قابلت الشيخ وقلت له ما رأيك في المؤتمر فقال لقد قرأت القرآن من الفاتحة إلى الناس فوجدت آيات تبرا من ذلك المؤتمر .

    وكان له ميل إلى القراءة في الأدب وكان يعجب ببعض الأبيات وربما نقلها في أوراق خاصة وأذكر أني كنت عنده في بيته في إحدى الليالي وبدأ يستعرض بعض الكتب وصار الحديث يدور حولها ثم أخرج ورقة وفيها أبيات شعرية فناولني إياها وقال : هذه الأبيات أعجبتني وقد جمعت السعادة بحذافيرها وقد نقلتها من بعض الكتب واحتفظت بها .

والأبيات لأبي الفتح كشاجم وهي قوله :

عجبي ممن تناهت حاله          وكفاه الله ذلات الطلب

كيف لا يقسم شطري             عمره بين حالين نعيم وأدب 

ساعة يمتع فيها نفسه             من غذاء وشراب منتخب 

ودنو من دمى هن له             حين يشاق إلى اللعب لعب 

فإذا ما نال من ذا حظه          فحديث ونشيد وكتب 

مرة جد وأخرى راحة         فإذا ما غسق الليل انتصب 

فقضى الدنيا نهارا حقها       وقضى لله ليلا ما وجب 

تلك أقسام متى يعمل بها      دهره يسعد ويرشد ويصب

  وبالجملة فهذه لمع من أخبار الشيخ علي العتيق الذي أحب الناس وأحبه الناس وحزنوا لفراقه فلعل فيها شيئا مما يبرز قيمة هذا الرجل ويرد له بعض حقه ويجعل فيها موضع قدوة وعبرة . 

   ولعل الله ييسر فرصة أرحب ليكتب فيها عن الشيخ بشيء من التفصيل .

رحمك الله يا أبا حمد وأسكنك الفردوس الأعلى وأصلح عقبك وبارك فيهم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى